11.15.2009

مقال ( نملتان في الفلفل) للدكتور زكي نجيب محمود

نملتان في الفلفل
جلس الشيخ في دكانه محزونا ؛ إعتمد رأسه علي راحتيه وجعل يفكر : ماذا أنا صانع يا رباه في جحافل النمل التي تهجم علي سكَّري في ظلمة الليل ؟ إنها لتأكلني أكلا إذ هي تأكل قوت عيالي ، وإني لعائل أسرة أكاد أنوء بحماها الثقيل ؛ لو كانت النِّمال مما يرعي مبادىء الأخلاق ، لناشدتها الضمائر ألا تسطو علي ملك غيرها ، فحرام عليها أن تستريح بياض النهار في أعشاشها ، حتي إذا ما سترها الليل بعتمته ، ملات بطونها مما كد َّ غيرها في جمعه وكدح ، حتي تندَّيمنه بالعرق الجبين . لكن ـ واأسفاه ـ ليس للنمل أخلاق يُراعيها .وتحير الشيخ في أمر هذا النمل ، كيف يعرف موضع السكر وإنه لخبىء في عابة محكمة الغطاء ؛ وإن الشيخ ليغير مكان العلبة كل مساء ، فيضعها علي الرف مرة ، وتحت النضد مرة ،ويكسوها باللفائف تارة ، ويعلقها في الهواء طورا .... لكن النمل يعرف !!ولمعت فكرة في رأس الشيخ كاد يثب لها في مقعده : أما والله إني لأحمق مأفون ، أضع إصبعي في الفخ حتي إذا ما ضغط الفخ علي إصبعي ، صرخت من ألم !ألم أكتب علي الصناديق بيدي هذه البطاقات ، تعلن عما في بطونها فلمن كتبتَ ـ ياأحمق ـ هذه البطاقات ، إن لم تكن للنمل يقرؤها في الليل ، وإنه لذو بصر حديد ، فيعرف موضع السكر من الدكان في حندس الليل ! لأنزعن من فوري هذه البطاقات عن أماكنها ، وكفاني من بلاهتي ما لقيت كفاني ... ونهض الرجل في حماسة لينزع ...لكن لا ! لقد لمعت عيناه بفكرة أخري ، فكرة إفترت بابتسامة عريضة ، ثم انفجرت بقهقة عالية .. أأنا الرجل الذي يغلبه النمل علي أمره ثم لا ينتقم ؟ فيما إذن كان مقامي في حلقات العلم أعواما إن قصرت بي عن ختام العلم فقد دنت منه؟! ويحك الليلة مني يا نمال ! ونزع الرجل في زهو الظافر بطاقة السكر ووضعها علي علبة الفلفل وكتب الفلفل علي علبة السكر ـ سيأتي النمل الليلة أسرابا كعهده ، وسيقرأ العنوان فيظنه دالاَّ علي مضمون الكتاب ، وسيدخل علبة الفلفل وفي وهمه أنه سيجدحلاوة كل يوم ، وما كل ما يتمني المرء (يا نمل ) يدركه ، تأتي الرياح يا نمل بما لا تشتهي السفن ...وأوشكت الخطة أن يصيبها الفشل ، إذ جاء النمل ولم يقرأ ، بل شم وانصرف ،إلا نملتين نملتين حفظتا القراءة في مدرسة من مدارس الالزام ، فقرأتا وضحكتا من جهل الأخوات ، وتسللتا إلي السكر الموهوم ، فإذا داخل العلبة ديجور لم تعهداه فيما سلف من الليالي ن وبيناهما تسعيان وراء الرزق ، صدمت نملة منهما نملة في بعض الطريق:ـ ما لك الليلة ماذا دهاك ؟ ـ عتمة لم أعهدها ها هنا يا أختاه .ـ لست أري في الأمر اختلافاً عن المألوف .ـ بل ألفتُ أن يتسرب من سماء هذا المكان شعاع ضئيل من الضوء يعكس شيئاً من بياض ، وإذا الامر كله الليلة في عيني سواد في سواد ؛ ثم الفت أن أسير علي منبسط فسيح ، فإذا بي الليلة أدور مع موطيء القدم حيث يدور ن ثم ... لست أدري يا أختاه ماذا دهاني ، لعله مرض في جوفي تغيرت معه طبيعة دنياي ثم ألفت علي اللسان حلاوة فإذا بالشىء يلسع الليلة لساني لسعاً أليماً ، حتي ليكاد اللسان من حدة اللسع يحترق .لك الله يا مسكينة ، ألا إن الأالأرض هي الارض والسماء هي السماء ، والمأكل كعهدنا طيب به حلو المذاق ، غيِّري من جوفك تتغير الدنيا في عينيك .ـ أواثقة أنت أننا في علبة السكر ؟ـ قرأت العنوان بعيني ، واذوق الطعم الآن بلساني ، وليس إلي الشك عندي من سبيل . وفيما الريبة والسؤال ؟ دونك المكتوب فاقرئيه ، وليست الرحلة إليه شاقة ولا عسيرة .ـ سأفعل ن لا ارتيابا في صدق ما تقولين ، ولكن ليطمئن قلبي . ـ وخرجت النملة إلي ظاهر العلبة ثم عادت والتقت بأختها بعد تعثر في الطريق وبحث في الثنايا هنا وهناك .ـ صدقت إنه السكر لاشك فيهـ لا ( يا أختاه ) بل كل الشك فيه.ـ وي! ماذا تقولين؟ ماذا تظنين ؟ ـ كأنه يا أختاه حَب فلفل ، إني لأحس الآن ما تحسين ؛ فسواد شديد حالك يسد عليَّ مسالك الطريق ، وانبعاج في الأرض لا يكاد يمكنني من السير ، ثم طعم لاذع يذيب اللسان ويمزق الأحشاء .ـ لكنه السكر ، والبدال لا يخطىء الترقيم .ـ نعم ، لابد أن يكون سكرا ، لأن البدال لا يخطىء الترقيم ؛ فصبراً جميلا ، حتي نملأ جوفينا مما رزقنا الله وإنه لحلو مستساغ , وإن كره البصر واللسان والاحشاء جميعا.وأصبح الصباح وعاد النمل إلي عشه ، لا لتستريح النملتان هذه المرة من عناء الليل ، بل لتتلويا من عذاب أليم كلما مغصت في جوفيهما الأمعاء ، والتقت المسكينتان في منبطح من العش :ليتنا ما أكلنا السكر ـ السكر ؟ !ـ وما عساه في ظنك أن يكون ؟ـ اسمعي يا أختاه ، لقد ذهبت مع ظلمة الليل وغفلته ن وعادت إلي ّ مع ضوء النهار حكمتي ، إن هولاء الناس لأصحاب خدعة فما فتئوا الدهر يخدعون ويخدعون ، ةإني لأعلم من أمرهم ما لا تعلمين ، بل لعلي أعلم منه أعلم منه ماليس يعلمون .ماذا تريدين ؟ـ سأوضح لك الليلة ما أريد.ـ وجاء المساء وخرجت النملتان ، نملة تهدي وأخري تهتدي تعاليْ معي فادخلي خزانة الكتب ، امسكي هذا الكتاب ما عنوانه ؟ ـ في الفلسفة الاسلامية.ـ ومن كاتبه ؟ـ شيخ جليل في طليعة الشيوخ ـ دونك فاقرأيه ، ماذا ترين فيه ؟ـ لست والله أطالع فيه إلا فقه وما إلي الفقه .ـ نعم ، وسماه فلسفة، ليدخل المريدون خلال العنوان إلي فلسفة فإذا بخم في فقه يتقلبون ، كما دخلنا ليلة أمس علي بطاقة من سكر ، فإذا الفلفل يملأمنا الأمعاء والبطون ... وهذا الكتاب الآخر ما عنوانه ؟ ـ خواطر أديب ـ ومن كاتبه؟ـ علم من أعلام القلم ـ دونك فاقرأيه ، ماذا ترين فيه ؟ ـ لست والله أري فيه إلا خليطا من معرفة لا هي إلي العلم في دقته ولا إلي الأدب في جمله وصورته . ـ نعم ، وجعله الكاتب أدبا ، ليتسرب إليه الراغبون في أدب ، فإذا هم في مرج آخر يمرحون ... اخرجي من بطون الكتب وهيا بنا إلي الحياة العريضة في المنازل والشوارع ، انظري هناك ماذا تبصرين؟ـ كومة من قمامة ... لا بل هو آدمي يتحرك.ـ هذه القمامة البشرية يسمونها مدنية شرقيةـ كلا ، لا تمزحي، بل..ـ وانظري هناك ، ماذا تبصرين ؟ـ شرطي يضرب إنسانا في عرض الطريق .ـ وهذا الطغيان الساري يسمونه مدنية شرقية.ـ وانظري هناك ، ماذا تبصرين ـ كأني به مريض محموم أحاط به ذووه.ـ وهذه الجهالة يسمونها مدنية شرقية .ـ كلا لا تمزحي بل ...ـ وادخلي هذه الدار فانظري ، ثم ادخلي جماجم الرءوس وانظري ، وسترين شيئا عجبا يسمونه مدنية شرقية .ـ كلا لا تمزحي بل المدنية الشرقية شيء غير هذا كله . سمعتهم هكذا يقولون.ـ وأنا سمعت آخرين يقولون إن المدنية لا تكون شرقية ولا غربية، إنما هو علم يعلمه الأنسان أنّي كان ، وفن يخلقه الأنسان أنّي كان فحيثما وجدت الجهالة والمرض ، وجدت ماذا ؟ـ لكنهم يقولون...ـ ويحك من نملة حمقاء ، أفتنصتين بعد لما يقولون ؟ إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، ألا يكفيك ليلة واحدة تقضينها في علبة الفلفل ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق