8.01.2011

شهر رمضان ..........أوراق قديمة

الورقة الأولي
في ركنٍ قصي من الذاكرة ترقد تلك اللحظات، تبدو نائية، بعيدة بُعد السنوات الفاصلة بين الطفولة والشباب، بين الغياب وحضور الوعي وإدراك مدي قسوة الأيام وتتابعها.
باهتةٌ تبدو التفاصيل الصغيرة، حضورها خافت كخيوطِ شمسٍ غاربةٍ تنسلُّ من قبضة النهار متسربة من بين أصابعه، ودون شعور ترحل مخلفة طيفا يوهم بوجودها ويؤكد اختفاءها الحتمي.
تفاصيل أخري لها تجلٍ وحضورٌ قويان يقاومان طوفان النسيان الزاحف بكل غشاوته علي سنوات النشأة والتكوّن، البراءة الخالية من أصباغ واقعٍ مرير الوطأة، العقلُ المُشْرَعُ لكل ضَوء ينيره، لاحُجُبَ كي تمنع نفاذه، ولا أستار تقبض أحضانها علي خيوط النور.
القلبُ شاغرٌ من الهموم، لاتنعقد في أروقته الأكدارُ ولا يقربه قلق عفيٌّ يمزق نياطه، ويدمعُ أعينا تنغلق لاستقبال أحلام سحرية قادمة من عالم خلقه خيال جموح يرفرف بين ندفات السحاب ونقط النجوم اللامعة في سماء صافية، مفعمة بهدوء وسكون يطلقان عنان الأحلام السكري.
ومضة تبرق عبر غيوم الماضي، الشمس تحبو نحو الاستتار في خيوط الليل، رماديةُ ما قبل المغيب تفرش الكون وتحيله إلي أطياف غامضة، محببة إلي نفوس الأطفال، طالما ينتظرونها قبل الغروب وأثناء الشروق، لحظات فارقة بين ليل قادم أو راحل وصباح يتفتح، ونهار يغمض جفونه، وتذبل زهراته، ويعم السكون في الكون. من تلك اللحظات ما يُضن به في خزائن الذكريات، تحركه أصوات بعينها، من موضع ركوده يتحرك، ومن استتاره ينبت، وصوب سماء إشراقه يعلو.  
 الورقة الأولي محددة بذلك الصوت، مؤطرة بزمان تجليه، سريانه في دروب العمر الملتوية؛ ذلك هو صوت الشيخ محمد رفعت الذي يأتي مشوشا عبر راديو قديم، إلي أي السنوات يمتّ؟ ربما إلي أوائل الثمانينات من القرن الماضي، قبل مجيئي إلي الدنيا ببضع سنين، يعلو الصوت ثم يغيب ويعاود الوضوح مرة أخري، صوت الشيخ رفعت يردٌّ السامع إلي أزمنة بعيدة، زمان نزول الوحي علي الرسول الكريم، يجرك الصوت إلي الماضي، يدفعك لاجترار الذكريات، موجاتٌ تصطحب ذلك الصوت، من الماضي ينبعث، ويبعث معه كوامنا طالما ظلت في سراديب الخفاء، يرسل الصوت إشارتين، يستحضر زمانين مختلفين، اصطبغا بتلك الموجات، ما إن يجري متماوجا حتي تتلقفه الأذن، أول تلك الأوقات: الساعة السابعة من صباح كل يوم حيث تَبث إذاعة القرآن الكريم نصف ساعة للشيخ رفعت، ثاني الأوقات وهو أَوْلاهُمَا بالقُربي، أَشْمَلْهُمَا بالمَودة، أَكثرهما اصطخابا في عمق الذاكرة، أَحَبُّهُمَا إلي القلوب، تلك أُويقات ما قبل الإفطار في شهر رمضان.
فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً  فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
الشوقُ لجرعةِ ماءٍ تطفئ الظمأ، قلقُ الأحشاء من شدة الجوع، دقائقٌ باقيةٌ علي الإفطار، العينان مقلبتان في السقف، والأذن ترهف السمع لصوت القرآن
وهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
 تصمت الأصوات، ويلجئ الانتظارُ الأفواهَ إلي السكوت.
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا
ينطلق الأذان، وتلهج الألسنة بالدعاء.
أحمد جاد
1 رمضان 1432
1 أغسطس 2011
الورقة الثانية
مثيرات للشجن، موجات فرح ممزوج بألم خفيف تحلق في سماء القلب، لا يمكن استحضارها إلا عن طريق الخيال الشحيح.
هنا القاهرة........ هذا هو صوت جلال معوض وهذه هي إذاعة البرنامج العام إنها حقا ذكريات لا تنسي، تختزنها الذاكرة، تأتي طيعة، منسابة من سماعة الراديو.
في الورقة الثانية أكمل حديثا بدأته عن الإذاعة ذلك العشق القديم الذي استبد بي قبل غزو الآلات المستهلكة للروح والجسد معا؛ الأطباق التي تعلو أسطح المنازل جالبة مئات القنوات الفضائية، الأسلاك الموصلة للانترنت، ذلك الزخم الذي يؤطر حياتنا ويأكل من أعمارنا وينأي بنا بعيدا عما يحقق لنا الصفاء والهدوء والسلام مع النفس.
لإذاعة البرنامج العام مذاق استثنائي خاصة في ليالي رمضان، في سنوات الطفولة كان الشهر الكريم يأتي في فصل الشتاء حيث يطول الليل ويُلتمس الدفء عبر ذبذبات الراديو التي لاتهدأ، وتمتد سهرات الإذاعة ساعات طوال، أذكر أول تعلق لي بالراديو كان ذلك قبل التحاقي بالمدرسة الابتدائية؛ راديو صغير لونه( بنيّ) أهداه لنا عمي لما قدم من إحدي دول الخليج، وصار تعلقي به شديدا حَدّ اصطحابه في كل مكان أذهب إليه، كان له حقيبة تحمل ذات اللون، بلاستيكية، بها ثقوب عند موضع السماعة تسمح بخروج الصوت، للحقيبة حزام يمتد منها ليعلق في الكتف، ببطاريات صغيرة الحجم يعمل الراديو، لا أذكر ما كنت أستمع إليه في تلك الفترة، الأصوات تنأي مع امتداد السنوات التي تفصلنا عن وقت سماعها، لايمكن استعادتها واستحضارها بسهولة كذلك الروائح، أما الاماكن فتظل راسخة تؤكد حضورها مع هبوب الذكري والتماع أطياف تشبهها كشخص يغيب ثم تراه في وجوه أناس يذكرونك به وإن لم يكونوا يشبهونه، أُنتزع مني هذه الجهاز الأثير لديّ وامتدت حسراتي علي رحيله عني وتوحدي بعيدا عنه.
التعلق الثاني بالإذاعة كان في أواخر العام الثامن والتسعين وتسعمائة وألف، تحديدا كنت في الصف الثالث الإعدادي، هو نفسه راديو الثمانينات الذي جري ذكره في ورقتي الأولي، مضبوط علي إذاعة البرنامج العام، الوقت ليل والبرد قاس،علي منضدة أستذكر دروسي وهناك في مكان قريب مني يسمح ليدي كي تمتد لتعدل المؤشر فلا يغيب الصوت ويتداخل مع محطات أخري
من البرامج التي علقت في الذاكرة برنامج المسحراتي أجدني أتذكر الساعة الثانية إلا الثلث صباحا بعد انتهاء نشرة الأخبار ينطلق صوت جلال معوض (من كلمات فؤاد حداد لحن وأداء سيد مكاوي تستمعون إلي          المسحراتي )                                                                                                 
النقرات المتتالية علي الطبلة ثم يأتي صوت سيد مكاوي                                                       
اصحى يا نايم
وحد الدايم
وقول نويت
بكره ان حييت
الشهر صايم
والفجر قايم
اصحى يا نايم
وحد الرزاق
رمضان كريم


المشى طاب لى  
و الدق على طبلى
ناس كانوا قبلى
قالوا فى الأمثال :
"الرجل تدب مطرح ما تحب"
و انا صنعتى مسحراتى فى البلد جوال
حبيت و دبيت كما العاشق ليالى طوال
و كل شبر و حته من بلدى
حته من كبدى
حته من موال


برنامج آخر اسمه (( أولو العزم من الرسل)) يَعرض قصة نبي من أولي العزم في شكل درامي ما زالت الحلقات محفورة في الذاكرة لا تغادرها لحن المقدمة والنهاية ،أيضا أغنية محمد ثروت.
برنامج ( عصر من الغناء مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم) يذيع أغنية لأم كلثوم يوميا، والحديث عن أم كلثوم يحتاج مني إفراد ورقة مستقلة قد تكون ورقتي التالية.
أما ألف ليلة وليلة ذلك العالم السحري الذي  تخلقه موسيقي المقدمة وصوت الفنانة زوزو نبيل أدرك وقتها أنني حقا في شهر رمضان الإحساس نفسه أجده عند سماع صوت الشيخ رفعت وصوت المسحراتي ونقرات الطبلة.
أعتقد أن برامجًا رمضانية أخري تسربت من الذاكرة عبر تلك السنوات الفاصلة التي استطاعت أن تمحو وتثبت ما تشاء، لكن هذا الراديو ( راديو الثمانينات) أصابه عطب  فصار لايعمل وبعد محاولات فاشلة لإصلاحه صار أخرسا لا ينطق، ثم اختفي من المنزل ولا أدري أين ذهب؟ ثمة أجهزة أخري اشتريتها طوتها عباءة الاختفاء منها راديو علي هيئة الهاتف اللاسلكي اشتريته في الصف الثاني الثانوي، أيضا مع بدايات دخولي الجامعة كان في حقيبتي- لا يغادرها- راديو صغير بحجم كف اليد، جميع هذه الأجهزة صارت إلي الفناء بعد سنوات عدة كانت هي الرفيق الملازم في الحِل والترحال، حتي أصبح اليوم لا يوجد في منزلنا جهاز راديو لكني حرصت عند شرائي للهاتف المحمول أن يكون مزودا بجهاز ترانزستور بغضِّ النظر عن أي مَزِيّةٍ أخري وجدت أم عُدمت، المهم أن يكون به راديو أستطيع أن استمع له في أي وقت وفي أي 23مكان.
وإلي لقاء مع ورقة أخري
10/رمضان/ 1432
10/ أغسطس/ 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق