2.26.2010

هيروبولس ... قصة مدينة ( قراءة في رواية هيروبولس للأديب محمد التهامي)



عبر مئة عام مرت علي مدينة هيروبولس ينقلنا محمد التهامي خلالها واصفا أفراحها وأتراحها ، شموخها و انكسارها يصفها عندما كانت مبانيها واطئة ورؤوس أهلها في السماء ، وعندما تسامق الحجر لتنحني هامات البشر .
إنها المدينة الحلم ، وطن الغرباء والشهداء ،مئة عام وهي عصية علي الانحناء ، أحبها الكاتب فكان من القلائل الذين كتبوا عنها وذاب شوقا في غرامها .
رحلة المئة عام في تاريخ مدينة سها عنها المؤرخون وأغفلها الشعراء وتناسها الكُتاب
كانت السويس في رواية ( تهامي ) هي البطلة ، الجميع يأتي ويرحل وهي سامقة ، راسخة رسوخ الجبال الشُم .
تسحر الغريب ويشتاق إليها البعيد ، حسنُها مترامي الأطراف ... المدينة العجوز.. المرفأ الدافئ .. حِضن الأم الرؤوم ...
لم تكن هيروبولس مدينة فحسب بل كانت امرأة تحمل غيرة الأنثي ، شبقها ، طفولتها ، حبها المجنون ، تهب قلبها لفارسها وتصعر خدها لمن تسقطه رنة الذهب ولمعة الألماس وبريق الفضة
قصة المئة عام تُختصر في قصة عائلة عزيز الفتي المغرم ببلاد الجن والملائكة (فرنسا)
تجبره وفاة والده علي العودة إلي هيروبولس وبعودته تُنسج خيوط الحكاية وتبدأ الرحلة ؛رحلة العلو والهبوط ، يتزوج ابنة خاله ( فاطمة) إرضاءً لخاله ، يعمل في شركة هيئة القناة ، يُقسم وقته بين عمله وجلوسه في لوكاندة بلير وزوجته ربيبة الجن والعفاريت التي تصنع لزوجها الأعمال والأحجبة كي يفك سحره ويشفي زوجها الملموس!
يفاجئنا الكاتب بإحدي المصادفات القدرية التي تنحو بالرواية منحي لم يكن القارئ يتوقعه
تعود ( كريستين ) – حبه الباريسي القديم – مع زوجها ( ميشيل ) الذي سوف يعمل مديرا للشركة التي يعمل فيها عزيز ، أسقط في يده عندما علم بمقدم كريستين لكن تظهر شهامة ورجولة عزيز فيعاملها وزوجها معاملة حسنة ويحسن ضيافتهما .. رويدا .. رويدا تندمج كريستين وتعشق هيروبولس ، وتمضي الرواية مستعرضة الأحداث التي مرت علي مصر ؛ مرورا بمعاهدة 1936 ، ونجم الوفد في سعود ، إلي أن يأفل النجم الوفدي بقيام ثورة 1952 ثم العدوان الثلاثي 1956 وركز الكاتب علي فترة ما بين الحربين 67، 73 مرحلة الانكسار في حزيران والعودة والشموخ في حرب تشرين
يفرد الكاتب لتلك الفترة العديد من الصفحات ؛ وإن كانت تلك الفترة تحتاج لرواية كاملة تحكي بسالة السويس وطنا وشعبا
في تلك الفترة يموت عزيز كان موته مبررا في الرواية فقد نجح الكاتب في اختيار التوقيت
عزيز الذي شهد انتصارات هيروبولس ، لم يعهدها حانية رأسها ، مطأطأة لعدوها
أهانه رجال أمن الدولة واتهموه بالخيانة لمكالمة أجراها مع موسي – اليهودي – ابن صديقه ( سمحون) تاجر الذهب وصديق يزيد- ابنه –
وكان لاتهامه بالجاسوسية أثر ٌ عميق في نفسه
{كيف أكون جاسوسا وابني في المقاومة وحفيدي في الجيش }، وفي حفرة صنعتها قذائف العدو
تردَّي عزيز فيها فكانت الطريق إلي حفرة أبعد غورا ، لم يتحمل عزيز الصدمتين فارقت روحه جسده وكلمات التسبيح والتحميد كانت آخر ما قاله ، انتهي دور عزيز وغاب عن هيروبولس قبل أن ترفع رأسها شامخة .
يأتي السادات خلفا لناصر وتدق الساعة الثانية ظهرا يوم السادس من أكتوبر 1973 ، ترفع هيروبولس رأسها ، تروي بدماء الشهداء ، وتصير المدينة الحلم عروسا من جديد
ثم تأتي أمواج الانفتاح والحداثة وتتعالي الأرصدة في البنوك وتنحني الرؤوس مرة أخري
وهيروبولس قائمة يتنكر لها جيل عبثت برأسه العولمة ، جيل معلقة عيونه بالأقمار الصناعية ، يكبر الأبناء وتنتشر موجات التغريب وتشرئب الأعناق وتهفو لبلاد النفط ويهجر الأوطان َ أهلُها.
ينهي الكاتب روايته بمنظر الغربان تنعب في سماء هيروبولس، ربما يحمل ذلك تشاؤما لدي البعض بينما الكثيرون لا يلتفتون إليه .
الآن لم تعد هيروبولس كما كانت منذ مئة عام ، غادرت البلابل وحلت محلها الغربان، مات عزيز وكريستين ومات معهما الحب .
يترك الكاتب القارئ في حيرة وتساؤل ، هل إذا عاد العدو مرة أخري سيصده أهل هيربولس الجدد كما فعل آباؤهم؟ ، هل لا زالت أعناقهم عصية علي الانحناء؟
وسؤال ربما يدور في ذهن بعض القرَّاء ( في مئة وخمسين صفحة تُروي قصة مئة عام من تاريخ مدينة عريقة مثل هيروبولس ، ألم يكن من المقدور أن تطول صفحات الرواية أكثر من ذلك لتتناول ملحمة المدينة ، أم أن كاتبنا أشفق علي قرَّائه من التطويل والإسهاب ، وأن يصيبهم الملل والفتور ؟
الإجابة نتركها لمحمد التهامي ربما يجيب عنها في عمل آخر جميل عن هيروبولس الجميلة.